في منهج التحليل الثقافي - الحلقة ١٠

د. محمد جلال هاشم - 15-08-2020
في منهج التحليل الثقافي - الحلقة ١٠ | د. محمد جلال هاشم

الحلقة رقم (10)
مفاكرات حول منهج التحليل الثقافي
الثقافة، الدّولة، الدّيموقراطيّة، الاستقلاليّة، الأيديولوجيا، والآفروعمومية


من أين تأتي الموضة؟
من وقتٍ لآخر، تبرز "تقليعة" بعينها أكانت تتعلّق بتسريحة الشّعر أو الملبس أو حتّى طريقة الكلام. وسرعان ما تنتشر هذه "التّقليعة" انتشار النّار في الهشيم، فإذا قطاع كبير من المجتمع هو يتماشى مع هذه "التّقليعة"، تقليداً لها وربّما تطويراً لها أيضاً. وهذا ما يُعرف بكلمة "الموضة". فمن أين وكيف يا تُرى تطلّ علينا صرعات الموضة الواحدة تتلوها واحدات أخرى وهكذا دواليك؟
الموضة ذات علاقة مباشرة بموضوع الميم ونزوعه نحو الجمال في سبيل البقاء. والموضة في تعريفها هي سلوك حادث (أو سلوك طارف وقديم لكنّه عاد وتجدّد) يبدأ فرديّاً ريثما ينتشر جماعيّاً بوصفه سلوكاً معمّماً generic behviour يحقّق ذات الفرد جماليّاً. وعليه، ما إن تنجح جهة بعينها، شخصاً فرداً كان (مثل شخصيّة مشهورة ومثار إعجاب العامّة) أم جهةً اعتباريّة (مثل شركات الملابس والسّينما)، في أن تصوّر سلوكاً بعينه (زيّاً كان أم تصرّفاً جسديّاً كتسريحة الشّعر أو تلوين الجسم وتوشيمه أو ثقب بعض أعضائه، أو حتّى طريقة التّحدّث والكلام، أو مشية، أو رقصة .. إلخ)، حتّى يصبح هذا السّلوك جاذباً لقطاع بعينه. وفي غالب الأحيان ينتمي هذا القطاع للأجيال الصّاعدة، أي الشّباب، من الجنسين معاً أو من كلّ جنس على حدة.
فإذا كانت صرعات الموضة ذات صلة مباشرة بمسألة الميم والنّزوع نحو الجمال، فإنّها أيضاً ذات صلة مباشرة بالاستقلاليّة من جانب ونقيضها وهو الاغتراب أو الاستلاب من الجانب الآخر. فالشّعوب المطعونة في هويّتها عادةً ما تكون عرضةً للتّأثّر بصرعات الموضة القادمة إليها من خارج حدودها السّياسيّة والثّقافيّة. فمن حيث الحالة، تكون عرضة للانجذاب حول كلّ ما هو قادم من خارجها باعتبار أنّها ليست جميلة، وأنّ الجمال موجود خارج نفسها. هذه الشّعوب لا يمكن أن تقوم لها قائمة، كونها مطعونة في هويّتها، ومنهزمة ذاتيّاً. وممّا يؤسف له أنّ قطاعاتٍ عريضة (ومتزايدة بكلّ أسف) من الشّعب السّوداني في عمومه من حيث خضوعه لجائحة الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة ينتمي لهذه الفئة مطعونة الهويّة، منهزمة الذّات.
في هذا تقف المرأة (طفلةً أم شابّةً أم امرأةً) بوصفها أكبر عاكس لهذه الظّاهرة، كون المرأة في مجمل روحها وجسدها تعتبر حاملاً جماليّاً تنجذب نحوه الأفئدة والأرواح. وليس أدلّ من الحقيقة في هذا الصّدد شدّة نزوعها نحو تفتيح البشرة التي مهما فعلت واستخدمت من "الكريمات" الضّارة بها، فإنّها لن تتمكّن من تغيير حقيقة بسيطة، ألا وهي أنّها امرأة أفريقيّة سوداء. وكذلك دعونا نلاحظ كيف شرعت بعض الفتيات والنّساء متوسطات العمر في ابتناء طريقة بعينها للكلام تشبّهاً بطريقة كلام نساء عربيّات هنّ أنفسهنّ يتشبّهنّ بطريقة نساء غربيّات. وهكذا ابتعدوا عن مكامن الأصالة المنبثّة عميقاً في الجِبِلّة السّودانيّة، لينتهوا إلى تقليد المقلّد، فانظروا وتأمّلوا! فالطّاء عندهنّ تصير تاءً؛ والصّاد تصير سيناً؛ والضّاد تصير دالاً، توهمّاً منهنّ أنّ في هذا غنجاً ورقّة وأنوثة، دون أن يدرين بأنّ ما هم عليه ليس سوى خراقة وأنّهنّ بهذا قد صرن مسخاً بشريّاً قميئاً وكريها، فليتهنّ يعلمن ولن يعلمن! وما كلّ هذا إلاّ لتبنّيهنّ معايير جماليّة لقومٍ غير سود؛ أو كما وصفها باقتدار الباقر العفيف (2002؛ 2007) بأنّها متاهة قومٍ سودٍ يعيشون بثقافةٍ بيضاء. وبهذا أصبحت هذه المرأة السّودانيّة قبيحة بحكم سقوطها في ذات معاييرها الجماليّة. وما سقطت المرأةُ في المجتمع إلاّ كان ذلك مؤشّراً نحو سقوط الرجل نفسه وبالتّالي المجتمع في كلّيّاته. وهذا يعكس لنا خطورة موقع المرأة في المجتمع؛ فهي قادرة على أن تصنع الرّجل والطّفل والمجتمع والتّاريخ دون الاسعانة بالرّجل بدليل قدرتها على تربية أطفالها دون الرّجل، بينما الرّجل، برغم هيمنته على مفاصل الحياة، لا يقدر على ذلك إلاّ إذا وقفت خلفه امرأة.
ولهذا لم يكن غريباً أن نرى هذه القطاعات (من الشّباب من الجنسين) وقد بلغ بها الاستلاب وانهزام الذّات حدّاً به أصبحت كارهةً لنفسها Self-haters. ومن أسفٍ، كلّما زادت كراهيّتُها لنفسها، نفثت هذه الكراهيّة سموماً نحو الشّعب السّوداني سبّاً ولعناً له. ولا يلعن الشّعب إلاّ ملعون!

الغبن الاجتماعي يمكن أن يستمرّ لقرون وقرون!
ستظلّ الشعوب التي يُعتمل في داخل وعيها الثقافي الغبن التاريخي (بمعنى عمقه التاريخي) تعاني من ذلك إلى أن تقوم بعمليّة من خلالها يتم التّنفيس عن هذا الغبن. فهذا الوعي سيظل يعمل كـ "خميرة عكننة" أو كـ "خُرّاج" متقيّح داخل جسم الشعب مستمرّاً عبر في جسدها ومسمّماً تاريخها. والعلاج هو إشاعة الشفافية التي تبدأ بمواجهة جراحات وظلامات الماضي والحاضر التي تقف وراء هذا الغبن التاريخي بشجاعة وبمحبة، لا بالإقصاء والتمترس الأيديولوجي، أي بفتح "الخُرّاج" وتنظيفه، لا بإغلاقه. وإلا فإنه الاستقطاب الأيديولوجي الذي يزيّف الوعي ويجعل جل هم ودور الصفوة هو تكريس الأوضاع القائمة. وهذا هو الدّور المنوط بالصّفوة. فالخطوة الأولى ينبغي تحرير الشّعب من الاحتراق الدّاخلي للغبن بحيث لا يتحوّل إلى حقد وكراهية لا يحترق بنارها غير الشعب. والعلاج لهذا هو فتح هذه الجراحات وتعريضها لضوء الشمس، أي للوعي المباشر للشعب. وثانيها اختطاط السياسات الناجعة التي من شأنها أن تعالج هذه الجراحات grievances.
إمّا هذا أو تصبح الصفوة فاشلة وغير قادرة على رد الأمانة لأهلها، أمانة السلطة التي ائتُمِنت عليها، كونها عجزت عن أن تصبح صفوة في المقام الأول لعجزها عن تحقيق استقلاليتها عندما تصدت لمهمة تسليك processing السلطة في مجتمعها. بهذا تكون الصفوة مجرد صفوة من حيث الرسوم والأشكال الخارجية (التعليم، الزعامة .. إلخ)، بينما هي مجرد رؤوس حربة في ماكينة الأيديولوجيا السائدة التي جرفها تيارُها. وهذا أشبه بأناسٍ نزلوا عند حافة النهر لتعديل مساره وتدفّقه بحيث يمكن الاستفادة من مياهه في أغراض الزراعة ودرء الفيضانات الجامحة إلخ، لكن إذا بالنهر يجرفهم بتيّاره فاستسلموا لهذا واكتفوا بمتعة العوم في النهر، ثم لن يعودوا إلى أهلهم إلا بالخيبات مهما انتشوا بالعوم.